أثار إعلان مجلس النواب الليبي، الذي يتخذ من شرق البلاد مقرًا له، تشكيل لجنة فنية لدراسة إمكانية المصادقة على مذكرة التفاهم البحرية الموقعة بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني عام 2019، تحوّلًا لافتًا في موقفه بعد سنوات من الرفض. يُعد المجلس الجهة التشريعية الوحيدة المعترف بها دوليًا، وخطوته هذه تأتي في سياق تقارب متزايد بين حكومة الاستقرار الوطني المعيّنة من مجلس النواب وأنقرة.

بحسب "ميدل إيست كآونسل أون جلوبال أفيرز"، تحمل هذه الخطوة تداعيات إقليمية كبيرة، خصوصًا في شرق المتوسط، حيث تحتدم المنافسة بين تركيا واليونان بشأن ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز الطبيعي. ورغم اعتراض أثينا على الاتفاقية منذ توقيعها، فإن تغير مواقف شرق ليبيا يهدد بإعادة خلط الأوراق في المنطقة. اليونان، التي لا تملك نفوذًا حقيقيًا داخل ليبيا، تسعى لحشد الدعم الأوروبي لمنع توسع تركيا في مناطق النزاع البحري

 

تقارب تركي – حفتر: من العداء إلى التنسيق

يعكس تراجع مجلس النواب عن موقفه السابق تحولات جيوسياسية بدأت قبل عامين مع انفتاح اقتصادي بين أنقرة وبنغازي، تطور تدريجيًا إلى تعاون شبه استراتيجي. لقاء نجل حفتر، صدام، بمسؤولين عسكريين أتراك في أنقرة في أبريل، ومشاركة قوات حفتر في مناورات عسكرية مع الجيش التركي في مايو، يؤكدان هذا التحول. في ظل تحولات أوسع بالمنطقة، كحرب إسرائيل على غزة، وانهيار نظام الأسد في سوريا، والصراع الإيراني الإسرائيلي، تسعى تركيا لتوسيع نفوذها عبر بناء علاقات مع شرق ليبيا لتعزيز مكانتها في ملف الطاقة شرق المتوسط.

انشغال الاتحاد الأوروبي بخلافاته الداخلية، وغموض موقف مصر رغم تحالفها الوثيق مع حفتر، يفتحان المجال أمام تركيا للتمدد. وبالمقابل، تجد اليونان نفسها في موقع دفاعي بعد أن كانت قد نجحت سابقًا في عزل تركيا بتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط إلى جانب مصر وقبرص وإسرائيل.

 

الحسابات الليبية الداخلية: ورقة نفوذ جديدة

يسعى خليفة حفتر من خلال هذا التقارب إلى تقوية موقفه داخليًا أمام خصومه في الغرب الليبي، خصوصًا بعد التوترات العسكرية بين حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي. الموقف التركي حيال هذه المواجهات اتسم بالحذر، بعكس مواقفه السابقة التي كانت أكثر دعمًا لحكومة طرابلس، ما يعكس إعادة تموضع أنقرة في التعامل مع الملف الليبي.

الغريب أن كلًا من طرابلس وبنغازي اتفقتا مؤخرًا على إدانة إعلان اليونان عن مناقصات تنقيب في مياه متنازع عليها مع ليبيا. ومع أن هذا التوافق الظاهري يصب نظريًا في مصلحة السيادة الليبية، إلا أنه يعكس في الواقع صراعات داخلية وأجندات ضيقة. حكومة الوحدة، التي تواجه ضغوطًا داخلية ومحاولات إقصاء من مجلس النواب ومجلس الدولة، تسعى لضمان دعم تركيا من خلال توقيع اتفاق جديد مع المؤسسة الوطنية للنفط وشركة البترول التركية لإجراء مسوحات بحرية في أربع مناطق، ما أثار مجددًا غضب أثينا.

أما حفتر، فيستخدم موضوع المصادقة على مذكرة التفاهم مع أنقرة كورقة تفاوضية، سواء لجذب تركيا، أو للضغط على الاتحاد الأوروبي للاعتراف بدوره السياسي. أحد أبرز أوراقه التفاوضية الآن هو ملف الهجرة غير النظامية نحو أوروبا.

 

الهجرة كسلاح ضغط

في 8 يوليو، طردت سلطات شرق ليبيا وفدًا رفيعًا من الاتحاد الأوروبي معنيًا بالهجرة بعد رفضه الاجتماع برئيس حكومة الاستقرار أسامة حماد، بحجة عدم شرعيتها. في الوقت ذاته، تشير الإحصاءات إلى تصاعد في أعداد المهاجرين المنطلقين من شرق ليبيا نحو اليونان، عبر جزيرة كريت، إذ تجاوز العدد منذ بداية العام 7300 مهاجر، مقابل أقل من 5 آلاف في عام 2024 بأكمله. يشير هذا إلى محاولة ضغط واضحة من حفتر على الاتحاد الأوروبي، بهدف انتزاع دعم مالي وتقني مشابه لما حصلت عليه حكومة الوفاق من إيطاليا في 2017.

هذه الاستراتيجية بدأت تعطي نتائج، فقد بدأ خفر السواحل الليبي تدريبات في كريت، فيما زار وزير خارجية اليونان بنغازي والتقى بحفتر، في خطوة تعكس تقاربًا غير مسبوق بين الطرفين

 

تحركات محفوفة بالمخاطر

رغم أن تحركات سلطات شرق ليبيا تجاه تركيا والاتحاد الأوروبي تهدف لتحسين موقعها التفاوضي، إلا أنها تحمل خطر التصعيد القانوني والتجاري وربما العسكري. اليونان غير مستعدة للتحرك منفردة وستعتمد على دعم أوروبي وأمريكي قوي في حال تطورت الأمور.

بينما تأمل ليبيا الاستفادة من ثروات الغاز والنفط، يبقى التفاوت في القدرات العسكرية والتقنية لصالح تركيا، ما يجعلها اللاعب الأكثر تأثيرًا في أي اتفاق مستقبلي في المتوسط. ومع أن الشراكة بين أنقرة وبنغازي تظل قائمة على المصالح المشتركة والبراغماتية، فإنها لا تخلو من الحذر المتبادل. وفي حال صادق مجلس النواب على الاتفاق البحري، ستسعى تركيا لترجمته إلى مشاريع أمنية وطاقوية في شطري ليبيا، بينما سيواصل حفتر استغلاله للتقرب من أنقرة وتوسيع شبكة تحالفاته، دون أن يُفرّط باستقلاله الفعلي.

https://mecouncil.org/blog_posts/growing-ties-between-eastern-libya-and-turkiye-increase-tensions-in-the-mediterranean/